فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (8- 9):

{اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى} أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح، وقد تقدم في سورة الأنعام أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له، وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس» الحديث. وفية«لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله». واختلف العلماء في تأويل قول: {وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة، وكذلك قال ابن عباس.
وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها، فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص، وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه.
وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها.
وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. {وَما تَزْدادُ} بدم النفاس بعد الوضع.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض، وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه.
وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض، وبه قال أبو حنيفة، ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة، والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع، قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت، فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني، فقال عمر: الله أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة، فدل أنه إجماع، والله أعلم. احتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع. وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
الرابعة: وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة، ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها، حكاه ابن عطية.
الخامسة: واختلف العلماء في أكثر الحمل، فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل، ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد- أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد-: إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين، وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين، وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام، وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع، والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبد الحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد ابن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل.
وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره، وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى، فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه، فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!، فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر.
وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه.
وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش.
السادسة: قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد، لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا، ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن.
السابعة: قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر، وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة، تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس، ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده، فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون؟! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!.
الثامنة: قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} يعني من النقصان والزيادة. ويقال: {بِمِقْدارٍ} قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه.
وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر، وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم. قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد، فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد، فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح، فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و{الْكَبِيرُ} الذي كل شيء دونه. {الْمُتَعالِ} عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره، وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله.

.تفسير الآية رقم (10):

{سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10)}
قوله تعالى: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره، والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و{مِنْكُمْ} يحتمل أن يكون وصفا ل {سَواءٌ} التقدير: سر من أسر وجهر من جهر سواء منكم، ويجوز أن يتعلق {بسواء} على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل.
وقيل: {سَواءٌ} أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات.
وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر، ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته، وأخفيت الشيء أي استخرجته، ومنه قيل للنباش: المختفي.
وقال امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنما ** خفاهن ودق من عشي مجلب

والسارب المتواري، أي الداخل سربا، ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسة.
وقال ابن عباس: {مُسْتَخْفٍ} مستتر، {وَسارِبٌ} ظاهر. مجاهد: {مُسْتَخْفٍ} بالمعاصي، {وَسارِبٌ} ظاهر.
وقيل: معنى {سارِبٌ} ذاهب، قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب، وقال الشاعر:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ** ونحن خلعنا قيدة فهو سارب

أي ذاهب.
وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض، قال الشاعر:
أني سربت وكنت غير سروب

وقال القتبي: {سارِبٌ بِالنَّهارِ} أي منصرف في حوائجه بسرعة، من قولهم: انسرب الماء.
وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه.

.تفسير الآية رقم (11):

{لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)}
قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّباتٌ} أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: {مُعَقِّباتٌ} والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة، يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم {له معاقيب من بين يديه ومن خلفه}. ومعاقيب جمع معقب، وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة.
وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم، نحو نسابة وعلامة وراوية، قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء، قال الله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] أي لم يرجع، وفي الحديث: {معقبات لا يخيب قائلهن- أوفاعلهن} فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين {مُعَقِّباتٌ} لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض، فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} اختلف في هذا الحفظ، فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه، قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة، وعلى هذا، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي بأمر الله وبإذنه، ف {مِنْ} بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
وقيل: {مِنْ} بمعنى عن، أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول، أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم، وهذا قول الحسن، تقول: كسوته عن عري ومن عري، ومنه قوله عز وجل: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] أي عن جوع.
وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة، لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات.
وقيل: يحفظونه من الجن، قال كعب: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر الله، وخصهم بأن قال: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لأنهم غير معاينين، كما قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي ليس مما تشاهدونه أنتم.
وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه، وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي، وعلى أن ملائكة العذاب والجن من امر الله لا تقديم فيه ولا تأخير.
وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف.
وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في {لَهُ} لله عز وجل، كما ذكرنا، ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول.
وقيل: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعني به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه، وقد جرى ذكر الرسول في قوله: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام، ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل، لأنه قد قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع- أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم، فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا، قاله ابن عباس وعكرمة، وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه.
وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ، قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه، فقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي من امتثال أمر الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده، قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وجهان: أحدهما- يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل، قاله الضحاك.
الثاني- يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر،- قاله أبو أمامة وكعب الأحبار- فإذا جاء المقدور خلوا عنه، والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، رواه الأئمة.
وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ- {معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه} فهذا قد بين المعنى.
وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: «ملك عن يمينك يكتب الحسنات وأخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة لنهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل». ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم، والهاء في {لَهُ} لهن، على ما تقدم.
وقال العلماء رضوان الله عليهم: إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما- قضى حلوله ووقوعه بصاحبه، فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر- قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد سئل انهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث». والله أعلم. قوله تعالى: {وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً} أي هلاكا وعذابا، {فَلا مَرَدَّ لَهُ} وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه.
وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. {وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} أي ملجأ، وهو معنى قول السدي.
وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه، وقال الشاعر:
ما في السماء سوى الرحمن من وال

ووال وولي كقادر وقدير.